وجه الاستدلال منها:
تعليق النبي صلى الله عليه وسلم الإحلال من الإحرام برمي جمرة العقبة، دليل على أن التحلل الأصغر يحصل برميها دون التوقف على أشياء أخر. وقد أبان عن ذلك فعله صلى الله عليه وسلم، كما أخبرت به عائشة رضي الله عنه، وأن تطييبها إياه كان عقب جمرة العقبة. وهو مفسر للروايات الأخرى، بأن المراد بقبل الطواف، أي: بعد رمي الجمرة.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) إذا رميتم، وحلقتم، فقد حل لكم الطيب، والثياب، وكل شيء إلا النساء (.
وجه الاستدلال منه:
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى، وحلق، قد حل له الطيب، والثياب، وكل شيء إلا النساء، دليل على حصول التحلل الأصغر بالرمي والحلق.
2 - وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ) طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها (.
وجه الاستدلال منه:
إخبار عائشة رضي الله عنها بأنها طيبت النبي صلى الله عليه وسلم حين أحل قبل أن يطوف، دليل على أن التحلل الأصغر حصل قبل الطواف، أي بعد الرمي والحلق.
3 - وقالوا: إنهما نسكان يعقبهما الحل، فكان حاصلا بهما.
3 - واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ [سورة البقرة آية 196].
وجه الاستدلال منها:
نهي الله - سبحانه وتعالى - عن الحلق، إلى حين الذبح - ليس واجبا على كل أحد - فدل ذلك على أن التحلل يكون بالحلق بعد الرمي).
2 - واستدلوا كذلك بجملة ما استدل به أصحاب القول الأول، إلا أنهم ذهبوا إلى أن التحلل إنما حصل بالحلق بعد الرمي، وليس بالرمي وحده.
3 - وحاولوا الجمع بين أدلتهم، وأدلة أصحاب القول الثاني التي فيها تعليق التحلل بالرمي وحده، بأن تلك الأحاديث لم تذكر الحلق، فيحتمل أن يكون التحلل والتطيب بعد الحلق، ويحتمل أن يكون بعد الرمي، فالأولى أن يحمل ذلك على ما يوافق حديث عائشة، لا على ما يخالفه، فيكون التحلل والتطيب بعد الحلق.
4 - وقالوا: إن المعتمر إذا طاف وسعى لا يحل له الطيب والنساء إلا بعد الحلق، فدل ذلك على أن التحلل يكون به، فكذلك في الحج لا يحل له الطيب إلا بعد الحلق.
5 - وقالوا: إن التحلل من العبادة هو الخروج منها، ولا يكون ذلك بركنها، بل بما ينافيها أو بما هو محظورها، والحلق قبل أوانه محظور بخلاف الرمي، فدل ذلك على أن التحلل يكون بالحلق لا بالرمي.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول: أن التحلل الأصغر يحصل برمي جمرة العقبة. وذلك لما يلي:
1 - أن ما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى لا تنهض لمعارضة أدلة هذا القول، فأحاديثهم إما غير صحيحة، كحديث عائشة رضي الله عنها وهو أقوى أدلتهم ومحورها، ولهذا سعى الطحاوي إلى حمل الأحاديث الأخرى عليه. وإما غير صريحة كحديث عائشة الآخر في الصحيحين، فإنهم حملوا قولها (... قبل أن يطوف) أي: بعد الرمي، والحلق، وهو احتمال فقط.
2 - أن أدلة أصحاب هذا القول صحيحة، وصريحة فيما ذهبوا إليه. فحديث أم سلمة، وحديث عائشة - في الذريرة - رضي الله عنهما أحاديث صحيحة، وفيها تعليق التحلل بالرمي وحده، دون الحلق. وكذا حديث ابن الزبير رضي الله عنهما مع ما فيه من خلاف في الحكم عليه بالرفع أو بالوقف.
3 - أن ما أشار إليه أصحاب القول الثالث من نظر. محل اعتبار، لولا وجود النصوص المشار إليها، إذ لا مجال له في مقابل النص. ومع هذا الاختيار، فالأولى بالحاج أن يؤخر التحلل حتى يحلق أو يقصر رأسه، خروجا من الخلاف. (والله أعلم).
فرع: ما الذي يحل بالتحلل الأصغر؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يحل به كل شيء إلا النساء (من الوطء، والقبلة، واللمس لشهوة، وعقد النكاح). وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، فبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وهو قول ابن الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم، وطاوس، والنخعي، وعبيد الله بن الحسن، وخارجة بن زيد، وأبي ثور.
القول الثاني: يحل به كل شيء إلا الوطء. وإلى هذا ذهب الشافعي في قول، وأحمد في رواية، وهو مروي عن ابن عباس.
القول الثالث: يحل به كل شيء إلا النساء، والصيد. وإلى هذا ذهب مالك، والليث. وكره مالك الطيب.
الأدلة:
ا - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ) طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها (.
2 - وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ) طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة لحجة الوداع للحل والإحرام، حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت (. وجه الاستدلال منهما:
إخبار عائشة رضي الله عنها بأنها طيبت الرسول صلى الله عليه وسلم حين أحل قبل أن يطوف بالبيت، نص صريح في إباحة الطيب بالتحلل الأول.
- وبحديث أم سلمة رضي عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ) إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة قبل أن تحلوا - يعني من كل ما حرمتم منه - إلا النساء (.
وجه الاستدلال منه:
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى الجمرة تحلل إلا من النساء، دليل على أن التحلل الأصغر يحل به كل شيء من طيب، وصيد، وغيرهما إلا النساء.
4 - وبأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ) إذا رميتم الجمرة، وذبحتم، وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء حرم عليكم إلا النساء والطيب (. قال سالم بن عبد الله: وقالت عائشة: ) أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله بعد أن رمى جمرة العقبة، وقبل أن يزور البيت ( قال سالم: ) وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع (.
وجه الاستدلال منه:
إخبار عمر رضي الله عنه بأن التحلل الأصغر يحل به كل شيء إلا النساء والطيب، ومخالفة عائشة رضي الله عنها له في الطيب، وإخبارها بأمر شهدته، وعلمته أكثر من غيرها؛ لأنها باشرت بنفسها تطييب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال سالم: وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع. فدل ذلك على أن التحلل الأصغر يحل به كل شيء إلا النساء.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) إذا رميتم، وحلقتم، فقد حل لكم الطيب، والثياب، وكل شيء إلا النساء (.
وجه الاستدلال منه:
أن إباحة الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء بالتحلل الأصغر دليل على أنه لم يبق من المحرمات شيء إلا الوطء في الفرج؛ لأن الطيب من دواعي الجماع.
2 - وقالوا: إن الوطء في الفرج أغلظ المحرمات، ويفسد النسك بخلاف غيره.
3 - وقالوا: إن القبلة والملامسة وغيرها من دواعي الجماع لا تفسد الإحرام، فتحل بالتحلل الأصغر كالطيب.
واستدل أصحاب القول الثالث على تحريم قتل الصيد بما يلي:
- بقوله تعالى: ﴿ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ [سورة المائدة آية 95].
وجه الاستدلال منها:
أن الله - سبحانه وتعالى - نهى عن قتل الصيد حال الإحرام، ومن تحلل التحلل الأصغر، لم يزل محرما؛ لأن التحلل الأكبر إنما يكون بعد الطواف. فدل ذلك على تحريم الصيد، فلا ترتفع حرمته إلا بتمام الإحلال.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: أنه يحل بالتحلل الأصغر كل شيء إلا النساء، وذلك لما يلي:
1 - الأدلة التي استدلوا بها صحيحة، صريحة، فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة نص في الموضوع، إذ أخبر أن المحرم يحل له برمي جمرة العقبة ما حرم عليه بالإحرام، ولم يستثن إلا النساء، فدل ذلك على أنه يحل له كل شيء إلا النساء.
2 - أن من استثنى الوطء وحده، إنما خصه لمخالفته بقية المحظورات، إذ يفسد النسك دون غيره من المحظورات، وهذا استثناء عقلي، لا يصح تخصيص عموم الحديث به.
3 - أن قياس القبلة، والمباشرة على الطيب بجامع أن كلا منهما من دواعي الجماع لا يسلم، لمخالفة الطيب لهما وغيرهما في كثير من الأمور، فهو مشروع في اجتماعات الناس ولقاءاتهم، بخلاف القبلة، والمباشرة فإنهما من قضاء الشهوة المتعلقة بالنساء.
4 - أن قياس الطيب عليهما أيضا غير صحيح للفارق بينهما، ولأنه قياس في مقابل النص الدال على جوازه وإباحته.
5 - أن الاستدلال بالآية لتحريم الصيد لا يسلم؛ لأن المحرم إذا تحلل من إحرامه - وإن لم يكن الحل كله - فليس في الآية ما يدل على عدم إباحته بالتحلل. وحديث أم سلمة - كما تقدم - لم يستثن إلا النساء فقط، فيكون الصيد من الأشياء التي حلت بالتحلل الأصغر، وقياسه على النساء فيه بُعد ظاهر. (والله أعلم).
المبحث الثالث: طواف الوداع: :
يشرع للخارج من مكة أن يودع البيت العتيق بالطواف، كما شُرع له عند دخولها أن يبادر البيت بالطواف ليحييه، وأن يكون هذا الطواف آخر أعماله، ليكون وداعا له، ولهذه الأماكن المقدسة، بعد أداء هذه العبادة العظيمة وقضاء مناسكه، وقد كان الناس يصدرون بعد حجهم من كل مكان، فأمروا أن يكون آخر عهدهم بالبيت. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (.
وسأتناول في هذا المبحث معرفة حكمه، وعلى من يكون، ووقته، وماذا يلزم من خرج ولم يودع؟ وذلك في مطلبين:
المطلب الأول: حكم طواف الوداع، وعلى من يكون؟
سأتناول دراسة هذا المطلب في مسألتين:
المسألة الأولى: حكم طواف الوداع.
المسألة الثانية: على من يكون؟
مسألة: حكم طواف الوداع:
اختلف العلماء في حكم طواف الوداع على قولين:
القول الأول: أنه واجب، يجب بتركه دم، إلا أنه يعفى عن المرأة الحائض، والنفساء. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في المشهور عنهما، وبه قال الحسن، والحكم، وحماد، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور.
القول الثاني: أنه مستحب، لا يجب بتركه شيء. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وداود، وابن المنذر.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ) أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (.
2 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ) لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (.
وجه الاستدلال منهما من وجهين:
(أحدهما) قول ابن عباس رضي الله عنهم: (أمر الناس) دليل على أن الآمر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر للوجوب، فدل ذلك على وجوب طواف الوداع، ونهيه عليه الصلاة والسلام الناس عن النفر حتى يطوفوا بالبيت، دليل على وجوبه أيضا.
(الثاني) أن تخصيص الحائض بإسقاطه عنها، دليل على وجوبه على غيرها، إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها معنى.
3 - قالوا: إن سقوطه عن الحائض لا يدل على عدم وجوبه على غيرها، كالصلاة تسقط عن الحائض، وهي واجبة على غيرها.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ) حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحابستنا هي؟ " فقلت: يا رسول الله، إنها قد كانت أفاضت، وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلتنفر (.
وجه الاستدلال منه:
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحائض تقيم حتى تطهر لطواف الإفاضة، وأن لها أن تنفر قبل الوداع، دليل على سقوطه عنها، وعلى عدم وجوبه، إذ لو كان واجبا لأمرت بالإقامة له، أو لوجب بتركه شيء.
2 - وقالوا: إن طواف الوداع، لتوديع البيت، فلم يكن واجبا كطواف القدوم تحية للبيت.
3 - وقالوا: إنه لو كان نسكا واجبا لاستوى فيه حال المعذور وغيره، والمقيم بمكة وغير المقيم بها، فلما لم يكن نسكا للمقيم والحائض يلزمهما بتركه دم، لم يكن نسكا لغيرهما، ولم يلزم بتركه دم.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: أن طواف الوداع واجب، يجب بتركه دم، إلا أنه يعفى عن المرأة الحائض والنفساء. وذلك لما يلي:
1 - أن ما استدلوا به من أحاديث دالة على وجوبه، إذ فيها الأمر بأن يكون آخر عهدهم بالبيت، ونهيهم عن النفر إلا بعد الطواف، وذلك دليل الوجوب.
2 - أن سقوطه عن الحائض ليس دليلا على عدم وجوبه على غيرها، بل هو دليل على وجوبه على غيرها، إذ لو لم يكن واجبا على غيرها لما كان لتخصيصها معنى.
3 - أن القول بوجوبه، يستلزم وجوب الدم بتركه، لأن واجبات الحج تجبر بالدم. (والله أعلم).
مسألة: على من يكون طواف الوداع؟
سبقت الإشارة إلى أن طواف الوداع يشرع لكل خارج من مكة، سواء قيل بوجوبه أم باستحبابه، وسأتناول في هذه المسألة بعضا ممن اختلف العلماء هل يكون عليهم طواف الوداع كغيرهم أم لا؟ وهم:
- من أراد الإقامة بمكة.
- من كان منزله قريبا من مكة.
- المرأة الحائض.
- الطواف لغير الحاج.
فرع: من أراد الإقامة بمكة:
من أتى مكة لأداء المناسك لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها، أو الخروج منها. ومن أراد الإقامة، إما أن ينوي الإقامة قبل النفر، أو بعده. فإن نوى الإقامة قبل النفر، فلا وداع عليه كالمكي، لأنه لا وداع إلا على من أراد الخروج من مكة. قال الكاساني: (فإن نوى الإقامة قبل أن يحل النفر الأول سقط عنه طواف الصدر، أي لا يجب عليه بالإجماع). أما إن نوى الإقامة بعد النفر، اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه إن نوى الإقامة ولو بعد النفر فلا وداع عليه. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف.
القول الثاني: أنه إن نوى الإقامة بعد النفر فعليه الوداع وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (.
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينفر أحد حتى يطوف للوداع، فدل ذلك على أن من أراد الإقامة، ولم يرد النفر فليس عليه أن يطوف للوداع.
2 - أن من أراد الإقامة بعد حل النفر فليس عليه طواف الوداع، كمن نوى الإقامة قبل حل النفر.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
أن من نوى الإقامة بعد أن حل النفر، لم يسقط عنه الطواف؛ لأنه وجب عليه بدخول وقته، فلا تؤثر نية الإقامة في رفعه.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء، أن من نوى الإقامة فلا وداع عليه وذلك لما يلي:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينفر أحد من مكة حتى يكون آخر عهده بالبيت، فلا مدخل لنية الإقامة في الوجوب وعدمه؛ لأنه إنما يجب بالعزم على الخروج، فإذا انعدم العزم لم يجب.
لا فرق بين من نوى الإقامة قبل حل النفر وبعده؛ إذ كل منهما لم يتحقق منه النفر، فلم يجب عليهما. (والله أعلم).
فرع: من كان منزله قريبا من مكة:
اختلف العلماء القائلون بمشروعية طواف الوداع، وأنه يشرع لكل خارج من مكة، هل ذلك خاص بمن كان منزله بعيدًا عن مكة، أم يشمل أيضا القريب منها؟ وما حد القرب والبعد؟
القول الأول: أن طواف الوداع يشرع لكل خارج من مكة أو الحرم، إذا قصد منزله، أو الإقامة الطويلة بمكان ولو كان ذلك قريبا، كمن منزله بذي طوى، أو التنعيم. أما من خرج ليعود فإن كان المكان بعيدا كالجحفة، فعليه أن يودع، وإن كان المكان قريبا كالتنعيم والجعرانة مما هو دون المواقيت فلا وداع عليه.
إلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور.
القول الثاني: أن من دون المواقيت فهم بمنزلة أهل مكة لا وداع عليهم. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (.
وجه الاستدلال منه:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، فدل ذلك على وجوب الطواف لكل خارج من مكة، ويستوي في ذلك القريب والبعيد.
2 - أنه خارج مكة فلزمه التوديع كالبعيد.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
- قالوا: إن هذا الطواف إنما وجب توديعا للبيت، لهذا يسمى طواف الوداع، وهذا لا يوجد في أهل مكة، لأنهم في وطنهم، وأهل داخل المواقيت في حكم أهل مكة، فلا يجب عليهم كما لا يجب على أهل مكة.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه الجمهور: أن طواف الوداع على كل خارج من مكة أو الحرم، لما يلي:
1 - أن عموم الأحاديث يتناول كل خارج من مكة، ويشمل ذلك القريب والبعيد 2 - أن الخارج من مكة مفارق للبيت، ويستوي في ذلك القريب والبعيد. (والله أعلم).
فرع: المرأة الحائض:
إذا حاضت المرأة قبل أن تطوف للوداع هل يلزمها أن تقيم بمكة إلى أن تطهر ثم تطوف للوداع أم لا يلزمها ذلك؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن المرأة إذا حاضت قبل أن تطوف للوداع، لا يلزمها أن تقيم لتودع، بل لها أن تخرج، ولا وداع عليها، ولا فدية. وإلى هذا ذهب عامة الفقهاء، من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار.
القول الثاني: أنه يلزمها أن تقيم بمكة إلى أن تطهر، ثم تطوف للوداع. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها: ) أن صفية بنت حيي رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " أحابستنا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت. قال: " فلا إذا ". وفي رواية: فلتنفر (.
وجه الاستدلال منه:
قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علم أن صفية قد أفاضت: " فلا إذا " وقوله: " فلتنفر " دليل على أن المرأة الحائض لا تحبس لطواف الوداع كما تحبس لطواف الإفاضة، وأن لها أن تنفر من مكة من غير وداع، ولا شيء عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب عليها شيئا.
2 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض).
وجه الاستدلال منه:
إخبار ابن عباس رضي الله عنهما بأن الناس أُمروا بطواف الوداع إلا أنه خفف عن المرأة الحائض، دليل على أن المرأة الحائض ليست مأمورة كغيرها بطواف الوداع، وأن لها أن تنفر، ولا شيء عليها.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بحديث الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي قال: سألت عمر بن الخطاب عن المرأة تطوف بالبيت ثم تحيض؟ قال: (ليكن آخر عهدها الطواف بالبيت). فقال الحارث: (كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال: عمر رضي الله عنه: (أربت. عن يديك، سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكيما أخالف).
وجه الاستدلال منه:
إخبار الحارث رضي الله عنه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفتاه بما أفتاه به عمر رضي الله عنه بأن على الحائض أن يكون آخر عهدها بالبيت، دليل على وجوب طواف الوداع على المرأة الحائض.
2 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (.
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينفر أحد حتى يطوف طواف الوداع، فدل ذلك على وجوبه على كل أحد حتى على المرأة الحائض.
3 - (وبفعله صلى الله عليه وسلم وأنه طاف للوداع قبل خروجه)، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ) خذوا عني مناسككم (.
وجه الاستدلال منه:
أمره صلى الله عليه وسلم الحجاج بأن يفعلوا في مناسكهم كفعله، وقد طاف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للوداع، فدل ذلك على وجوبه على جميع الحجاج ومنهم الحائض.
3 - وبأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت، فإن آخر النسك الطواف بالبيت).
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: أن طواف الوداع لا يلزم المرأة الحائض، وأن لها أن تنفر، ولا شيء عليها. وذلك لما يلي:
1 - أن قصة صفية رضي الله عنها، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تنفر، دليل صريح صحيح، أن المرأة الحائض لا يلزمها أن تقيم لتطوف للوداع.
2 - أن ما روي عن زيد بن ثابت، وابن عمر رضي الله عنهم قد ثبت عنهما الرجوع عنه، فقد أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن طاوس قال: (كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت). فقال له ابن عباس: (إما لا فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت).
وأخرج البخاري بسنده عن طاوس - أيضا - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت) قال: وسمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (لا تنفر)، ثم سمعته يقول بعد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن).
فهذا دليل على أنهما كانا يفتيان بذلك؛ لعدم علمهما بالرخصة للحائض، فلما علما بها رجعا عن قولهما، وكذلك رجع عمر رضي الله عنه عن قوله، فقد أخرج ابن حزم من طريق عبد الرزاق عن نافع قال: رد عمر بن الخطاب نساء من ثنية هرشى. كن أفضن يوم النحر، ثم حضن، فنفرن فردهن حتى يطهرن ويطفن بالبيت، ثم بلغ عمر بعد ذلك حديث غير ما صنع فترك صنعه الأول. (والله أعلم).
2 - أن حديث الحارث الثقفي رضي الله عنه إنما كان في أول الأمر، ثم رخص وخفف عن المرأة الحائض، وأذن لها بأن تنفر إن هي طافت للزيارة، كما أخبر بذلك ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يعلم عمر رضي الله عنه ومن وافقه برخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقاموا على ما معهم من علم، ولو علموا بالرخصة لرجعوا عن قولهم كما رجع غيرهم - وقد تبين أنهم رجعوا -.
قال الطحاوي - رحمه الله - بعد أن أورد الآثار الدالة على الرخصة للحائض بترك طواف الوداع: (فهذه الآثار قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحائض لها أن تنفر قبل أن تطوف طواف الصدر إذا كانت قد طافت طواف الزيارة قبل ذلك طاهرًا.
ورجع قوم إلى ذلك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان قد قال بخلافه، فثبت بذلك نسخ هذه الآثار، لحديث الحارث بن أوس، وما كان ذهب إليه عمر من ذلك).
وذهب آخرون إلى أن حديث الحارث الثقفي، وإن كان ظاهره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاه بأن على الحائض أن يكون آخر عهدها بالبيت. فليس ذلك مرادا، بل مراده رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ) من حج البيت أو اعتمر، فليكن آخر عهده بالبيت ( واللفظ ظاهر في العموم، ثم سأل عمر عن صورة من صور العموم، فأفتاه بما يطابق العموم، ولم يعلما أن تلك الصورة مخصوصة من هذا اللفظ، يبين ذلك ما جاء في بعض طرق الحديث عن الحارث أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) من حج البيت أو اعتمر، فليكن آخر عهده بالبيت ( فبلغ حديثه عمر، فقال له: خررت من يديك. سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تخبرنا به.
فرع: طواف الوداع لغير الحاج:
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في طواف الوداع، هل هو خاص بالحاج فقط، أم هو لكل من أراد الخروج من مكة وإن كان من أهلها؟ على عدة أقوال:
القول الأول: أنه خاص بالحج، فمن دخل مكة حاجا فلا يخرج منها حتى يكون آخر عهده بالبيت. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، وأحمد في المشهور.
القول الثاني: أنه خاص بالنسك، فمن دخل مكة حاجا أو معتمرا فعليه أن يطوف للوداع. وإلى هذا ذهب الشافعي، والحسن، وابن حزم.
القول الثالث: أن طواف الوداع لكل خارج من مكة، ولو كان من أهلها، إذا قصد مسكنه، أو الإقامة الطويلة - ولو كان المكان قريبا - أو قصد مكانا بعيدا، ولو بنية العودة. أما إذا قصد التردد عليها، أو قصد مكانا قريبا بنية العودة، فلا وداع عليه. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي في الأصح، وهو المعتمد، وأحمد. الأدلـة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الناس ينفرون من منى إلى وجوههم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون آخر عهدهم بالبيت، ورخص للحائض).
وجه الاستدلال منه:
إخبار ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس كانوا ينفرون بعد فراغهم من الحج من منى، فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا ينفروا حتى يكون آخر عهدهم بالبيت، فدل ذلك على أن الوداع خاص بالحجاج دون غيرهم من المعتمرين أو المقيمين.
2 - وبفعله صلى الله عليه وسلم إذ طاف للوداع، وأمر به، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ) خذوا عني مناسككم (.
وجه الاستدلال منه:
طوافه صلى الله عليه وسلم للوداع، مع قوله: ) خذوا عني مناسككم ( دليل على أنه من مناسك الحج.
3 - وبأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أكثر من مرة، ولم يرو أنه طاف للوداع أو أمر به، فدل ذلك على أنه خاص بالحج.
4 - وبأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا يصدرن أحد من الحاج، حتى يطوف بالبيت، فإن آخر النسك الطواف بالبيت).
5 - وقالوا: إن معظم الركن في العمرة الطواف، وما هو معظم الركن في النسك لا يتكرر عند الصدر كالوقوف في الحج؛ لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون معظم الركن في نسك، وهو بعينه غير ركن في ذلك النسك، ولأن ما هو معظم الركن مقصود، وطواف الصدر تبع، يجب لقصد توديع البيت، والشيء الواحد لا يكون مقصودا وتبعا.
وجه الاستدلال منه:
نهي عمر رضي الله عنه الحاج عن الصدور حتى يطوف بالبيت، وإخباره بأنه آخر المناسك، دليل على أن طواف الوداع من مناسك الحج.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بحديث الحارث الثقفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) من حج البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت (.
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحاج والمعتمر بأن يكون آخر عهده بالبيت، فدل ذلك على أنه مرتبط بالنسك من حج أو عمرة.
2 - وقد يقال: بأن العمرة أحد النسكين، فيجب فيها ما يجب في الحج من الوداع عند الخروج.
3 - استدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
1 - بحديث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا (.
وجه الاستدلال منه:
إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثا، بعد قضاء نسكه. وطواف الوداع إنما يكون آخر العهد بمكة، وسماه قبله قاضيا للمناسك، وحقيقته أن يكون قضاها كلها، فدل ذلك على أن طواف الوداع ليس من المناسك.
2 - أن المكي إذا حج ونوى الإقامة بوطنه، وكذا الآفاقي إذا حج ونوى الإقامة بمكة قبل النفر لا وداع عليه، فلو كان من جملة المناسك لعم الحجيج.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول: أن طواف الوداع خاص بالحاج إذا أراد الخروج من مكة. وذلك لما يلي:
1 - ما جاء من الأحاديث المطلقة الآمرة بأن يكون آخر عهد الناس بالبيت، قد بين حديث ابن عباس الآخر أن المراد بذلك الحجاج الذين كانوا ينفرون من منى، فإنهم المأمورون بذلك دون غيرهم.
2 - سقوطه عن المقيم، والحائض لا يستلزم أن يكون غير نسك؛ لأن طواف القدوم يسقط عن الحائض، ولا يلزم المقيم، وهو كما قال ابن جماعة: (من المناسك بلا شك).
3 - لا يشكل على هذا حديث العلاء، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحاج قد قضى مناسكه قبل طواف الوداع؛ لأن المراد - والله أعلم - قضى أغلبها وأكثرها، أو يكون المراد: قضى المناسك المؤقتة كالوقوف، والمبيت، والرمي.
المطلب الثاني: وقت طواف الوداع، وما يلزم من خرج ولم يودع؟
سأتناول دراسة هذا المطلب في مسألتين:
المسألة الأولى: وقت طواف الوداع.
المسألة الثانية: ماذا يلزم من خرج ولم يودع؟
مسألة: وقت طواف الوداع:
إذا أراد أحد الخروج من مكة طاف للوداع، ليكون آخر عهده من تلك المناسك والأماكن بالبيت، كـما يودع المسافر إخوانه وأهله إذا أراد مفارقتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم ) لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (.
وإن قضى حاجة في طريقه، أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه، لم يعده؛ لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت.
وكذا إن اشتغل بأسباب الخروج كحزم الأمتعة، وإعداد الرواحل.
أما إن اشتغل بعده بغير أسباب الخروج كتجارة، أو إقامة، فهل عليه إعادة الطواف مرة أخرى؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن عليه الإعادة. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وبه قال عطاء، والثوري، وأبو ثور، وأبو يوسف، والحسن، وابن حزم.
القول الثاني: إذا طاف للوداع، أو طاف تطوعا بعد طواف الزيارة، أجزأه عن طواف الوداع، وإن أقام شهرا أو أكثر. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. وأشهب من المالكية.
الأدلـة:
أ - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت.
2 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (.
وجه الاستدلال منهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يكون آخر العهد الطواف بالبيت، فمن أقام بعد طوافه لم يكن آخر عهده الطواف بالبيت، فدل ذلك على أنه يلزمه إعادة الطواف مرة أخرى.
3 - وقالوا: إذا أقام بعد الطواف، خرج أن يكون طوافه وداعا، فلم يجزئه، كما لو طاف قبل حل النفر.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بالأحاديث السابقة.
وجه استدلالهم منها:
قالوا إن المراد بالحديثين أن يكون آخر عهده بالبيت نسكا، لا إقامة، والطواف آخر مناسكه بالبيت، وإن تشاغل بغيره.
2 - وبأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ) لا يصدرن أحد من الحاج، حتى يطوف بالبيت، فإن آخر النسك الطواف بالبيت (.
وجه الاستدلال منه:
إخبار عمر رضي الله عنه أن الطواف آخر المناسك، دليل على أنه ينبغي أن يكون آخر المناسك، ولو أقام بعده.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: أن من أقام بعد طواف الوداع، أو اشتغل بعده بغير أسباب الخروج، فعليه إعادة الطواف مرة أخرى؛ لما يلي:
1 - أن المراد بالأحاديث أن يكون آخر العهد بالبيت، أي: لمن أراد الخروج من مكة وعدم الإقامة بها، ويدل على ذلك أيضًا: قول ابن عباس رضي الله عنهما: ) كان الناس ينصرفون في كل وجه (. فحمل ذلك على أن المراد أن يكون آخر العهد بالبيت نسكا، فيه بعد ظاهر.
2 - أن الإقامة بعد الطواف، تخرجه عن أن يكون آخر العهد بالبيت، وأن يكون توديعا له؛ لأن الوداع إنما يكون عند إرادة المفارقة. (والله أعلم).
مسألة: ماذا يلزم من خرج ولم يطف للوداع؟
سبقت الإشارة إلى أن على من أراد الخروج من مكة، ألا يخرج منها حتى يكون آخر عهده بالبيت، فإن خرج ولم يطف لجهل أو خطأ أو غير ذلك، فإن زال ذلك السبب فلا يخلو حاله من أحد أمرين:
أ - إما أن يكون قريبا.
ب - إما أن يكون بعيدا.
(أ) فإن كان قريبا: ولم يمنع من رجوعه مانع كفوات رفقة أو مال، فإن عليه أن يعود، ويطوف ثم يخرج، ولا شيء عليه، بلا خلاف بيـن العلمـاء، سـواء من قـال بوجوبه أو باستحبابه، فقد أخرج مالك عن يحيى بن سعيد: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رد رجلا من مر الظهران - لم يكن ودع البيت - حتى ودع)، فإن لم يرجع، فعليه دم، على القول بوجوبه؛ لأنه ترك واجبا من واجبات الحج، ويستوي في ذلك العمد والخطأ، والعلم والجهل، والعذر وعدمه.
(ب) أما إن كان بعيدا: فلا يلزمه الرجوع إلى مكة ليطوف، وعليه دم - على القول بوجوبه - لتركه واجبا من واجبات الحج.
فإن رجع، فهل يسقط عنه الدم أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يسقط عنه الدم؛ لأن الواجب عليه الطواف، وقد أتى به، فلم يجب عليه بدله كالقريب. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعية في وجه، وجعله الموفق ابن قدامة احتمالا.
القول الثاني: أنه لا يسقط عنه الدم؛ لأنه استقر عليه، فلم يسقط برجوعه كمن تجاوز الميقات غير محرم، فأحرم دونه ثم رجع إليه. وإلى هذا ذهب الشافعية في الأصح، وأحمد.
واختلفوا في حد القرب والبعد على أقوال:
القول الأول: القريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر. والبعيد: من بلغ مسافة القصر. وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد.
القول الثاني: القريب: ما دون المواقيت، والبعيد: ما جاوز المواقيت. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ومالك القول الثالث: القريب: من كان في الحرم، والبعيد: من خرج عنه. وإلى هذا ذهب الثوري.
الرأي المختار:
سبق أن المختار: وجوب الدم بترك طواف الوداع، والذي أختاره في هذه المسألة هو الرأي الأول: أن من رجع ليطوف للوداع، سقط عنه الدم؛ لأنه أتى بالواجب، فلم يجب عليه بدله. كمن تجاوز الميقات، ثم رجع إليه فأحرم منه، فلا شيء عليه.
وأن حد القرب والبعد، مسافة القصر فما كان دونها فهو قريب، وما جاوزها فهو بعيد؛ لأن مسافة القصر حد منضبط، بخلاف المواقيت فإنها متفاوتة في البعد. (والله أعلم).
الخاتمة
بعد هذه الدراسة للمباحث والمسائل التي اشتمل عليها هذا البحث يمكن إبراز أهم نتائجه فيما يلي:
1 - أن الطواف في الاصطلاح هو: الدوران حول الكعبة على صفة مخصوصة.
2 - أن الطواف حول الكعبة، مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، بل هو من العبادات المشروعة في الأمم السابقة.
3 - أن الطواف حول غير الكعبة، كالأضرحة والقبور لا يجوز بل هو من أخطر الذنوب، فهو داخل في دائرة الشرك الأكبر إذا كان تعظيما لصاحب القبر، وتقربا إليه.
4 - أن جملة أنواع الطواف المتعلقة بالمناسك ثلاثة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع.
5 - أن طواف القدوم للمعتمر هو طواف العمرة، فطواف عمرته يجزئ عن طواف القدوم، فلا يشرع له أن يطوف للقدوم قبل العمرة، ولا بعدها، وهذا الطواف في العمرة ركن من أركانها بالإجماع.
6 - أن المتمتع كالمعتمر طوافه الأول لعمرته، ويجزئ عن طواف القدوم، فلا يشرع له طواف للقدوم لا قبل الوقوف بعرفة ولا بعدها.
7 - أن المفرد والقارن يشرع لهما طواف القدوم إذا دخلا مكة قبل الوقوف بعرفة، أما إذا لم يدخلاها إلا بعد الوقوف بعرفة، فإن طواف القدوم يسقط عنهما، أو يجزئ عنه طواف الإفاضة.
8 - أن طواف القدوم سنة، وليس بواجب، فلا يجب بتركه دم.
9 - أن القارن إنما يلزمه طواف واحد لحجه وعمرته كالمفرد.
10 - أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج بالإجماع، فلا يتم الحج إلا به.
11 - أن أفضل الأوقات لطواف الإفاضة، ضحى يوم النحر، اتباعا للسنة. وخروجا من الخلاف.
12 - أن وقت طواف الإفاضة يبدأ من منتصف ليلة النحر، وليس له وقت ينتهي إليه، بل يمتد إلى ما بعد شهر ذي الحجة، ولا يجب بتأخيره دم.
13 - أن الأولى ترتيب أعمال يوم النحر بأن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يطوف اتباعا للسنة، وخروجا من الخلاف، لكن لو قدم الإفاضة على أعمال ذلك اليوم، صح طوافه، ولا شيء عليه.
14 - أن طواف الوداع واجب، يجب بتركه دم، إلا أنه يعفى عن المرأة الحائض والنفساء، فلها أن تنفر ولا شيء عليها.
15 - أن طواف الوداع إنما هو للخارج من مكة ولو كان منزله قريبا، فمن نوى الإقامة بها فلا وداع عليه.
16 - أن طواف الوداع خاص بالحاج، فلا يلزم المعتمر، ولا المكي.
17 - أن من أقـام بعـد طـواف الوداع، أو اشتغـل بغير أسبـاب الخروج، فعليه إعادة الطواف مرة أخرى، ليكون الطواف آخر عهده بالبيت.
18 - أن من خرج ولم يطف للوداع، فإن كان قريبا، ولم يشق عليه الرجوع، رجع للوداع ولا شيء عليه. وإن كان بعيدا، أو يشق عليه الرجوع، لم يلزمه الرجوع، وعليه دم، فإن رجع فلا شيء عليه.
19 - أن حد القرب والبعد، مسافة القصر، فما كان دونها فهو قريب وما جاوزها فهو بعيد.
والله أعلم. والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المبعوث بخاتم الرسالات وعلى آله وصحبه.
منقول للفائدة