الشهيد جمال منصور، سيرة من نور

بسم الله الرحمن الرحيم

الشهيد جمال منصور، سيرة من نور


[ 24/12/2011 - 04:59 م ]
مصطفى كامل شاور




بين يدي حديثنا عن سيرة هذا الشهيد الفذ أبي بكر فلسطين نحبُ أن نمهد لهذه السيرة العطرة بمقولةٍ لحاتم الأصم، أحد العلماء الربانيين في هذه الأمة والذي يعتبر قيها مجالسة الصالحين من أهم وأقوى أدوية القلوب في تقوية الإيمان بها، وتوليد التضحية من أجلِ نشرِ القيم السامية، والمبادئ والمثل الإيمانية الرفيعة، ونص مقولة حاتم (دواء القلوب، في عشرة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، والتضرع في وقت السحَر وقيام الليل، ومجالسة الصالحين، وخلو البطن، والمس على رأس اليتيم، وعيادة المرضى، ومعالجة جسدِ الميت، واتباع الجنائز، والاطلاع على ما في القبور، وذكر الله تعالى، وهو نوعان: ذكر ٌ باللسان وهو حسن، وذكر الله عند أمرة ونهية).

ومجالسة الصالحين تكون بقراءة سيرهم، والوقوف على أخبارهم بعد رحيل أجسامهم، لذا اعتنى السلف الصالح بهذا الجانب، فهذا سعدُ ابن أبي وقاص يقول لنا: (كنا نعلم أولادنا مغازي رسولِ الله، كما نعلمهم السورة من القرآن).

وحفلت دواوين السنة بكتب المناقب للصحابة الكرام، واستمرت الأمة في رعاية حق أهلِ الفضل فيها، فجمع سيرَ حياتهم في كتبٍ انزال نستمد العزم، والمضاءة والتضحية والايثار من معني افعالهم واقوالهم، فهذا ابن عبد البرِ القرطبي، من علماء القرن الخامس الهجري، يؤلف لنا موسوعة ترجم فيها لأكثر من سبعة آلاف صحابي وصحابية، حملت اسم: "الاستيعاب في أسماء الأصحاب"، ويتلوه ابن الأثير، من علماء القرن السابع الهجري، جارياً على نفس السَنَن، فيتحفنا بكتابة "أُسدُ الغابة في معرفة الصحابة".

ويتوج هذا المشروع ابن حجر العسقلاني، أبرز علماء القرن التاسع الهجري، وامير المؤمنين في الحديث، مستبطناً أعمال سابقيه فيهدي للأمة الاسلامية، موسوعته الضخمة عن الصحابة والتي ترجم فيها لإثني عشر ألف صحابي وصحابية، وسماها "الإصابة في تمييز أسماء الصحابة".

وإن من الوفاء للعظماء، تسطير سيرهم، وتدوين أعمالهم وأقوالهم، ونقلها للأجيال اللاحقة، وعدم القيام بذلك من معاصري أعلام الأمة، هو خيانةٌ كما نسمعُ ذلك من الامام الشافعي حيث يقول: الليث ابن سعد افقه من مالك، لكن خانهُ اصحابة- واليث هو فقية مِصر، من أقران الإمام مالك" ومعنى خانه أصحابة: أي لم يدونو فقهة ولم ينقلوه للأجيال من بعدة، فمات جيل التلاميذ وبموتهم مات علمُ هذا الفقية العلم، واصبح مجردَ اسم، في حين بقي فقةُ الامام مالك منتشراً في الاصقاع والبقاع، ومالئاَ الأمصار والأقطار حتى يومنا هذا.

وهناك عالمٌ الماني "اشبنجلر"، ألف كتاباً اسماهُ "إنهيار الغرب"، يتفق مع مقولة الشافعي السابقة، إذا يقول: (إن الأمة التي تحرق جثث رجالها، وذلك بعدم العناية بتسجيل أعمالهم وأقولهم، أمةٌ ضعيفة الاحساس بالتاريخ، وهذه الأمة إذا مضى على وفاةِ أحدِ عظمائها، ستون سنة، لن تستطيع أن تتحقق إن كان ذاك العظيم فيها شخصيةً تاريخية أو خرافية، فتفقد بذلك المنارات الهادية، والقدوات المتبعة، فتخسرُ من رصيدها التاريخي ما لا يمكن تعويضه).

فخشيةً من هذا المصير، كان هذا التسطير لهذه السيرة من نور، للشهيد جمال منصور، الذي ولد في 25/2/1960م، في مخيم بلاطة بعد 12 سنة من لجوء أسرته من قرية سلمة قضاء يافا، تلقى تعليمه في مدارس الوكالة في المخيم وكان متفوقاً في مدرسته أحبه المعلمون وشهد له زملاؤه، وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية والاعدادية في مدارس الوكالة انتقل الى مدرسة قدري طوقان في نابلس ليكمل فيها تعليمة الثانوي.

وقد كان شهيدنا منذ صفره تبدو عليه صفة القيادة حيث كان يحرص على أن يكون في مواقع الإشراف والقيادة، وكان دائماً يقول عن طفولته: هناك فريقان من الأطفال فريق يقول أنا مع من؟، وفريق يقول: من معي؟، وقد كنت دائماً مع الفريق الثاني.

ومنذ الصغر أيضاً اهتم شهيدنا بالقراءة، وشراء الكتب رغم ضيق ذات اليد وقة الموارد المالية إلا أنه كان يحرص على التوفير من مصروفه اليسير فيشتري به بعض الكتب وتكونت لديه مع الزمن مكتبة ضخمة، وقال الشهيد عن نفسهِ أنه قرأ كتاب إحياء علوم الدين للإمام ابي حامد الغزالي، وهو في الصف الثالث إعدادي (التاسع).

وكانت لشهيدنا نظرة خاصة وثاقبة في نوعية الكتب ووطبيعتها، فها هو يضيف إلى عبارة ابن المقفع ما يكملها ويتمم معناها فإبن المقفع يقول:

"إقرؤوا أفضل ما تجدون، واكتبو أفضل ما تقرؤون، واحفظوا افضل ما تكتبون"، فأكمل الشهيد العباره بالجملة التالية: وكان على ابن المقفع أن يقول: واعملوا بأفضل ما تحفظون، تكونوا افضل الناس.

في مدرسة قدري طوقان انضم شهيدنا إلى الحركة الإسلامية، وكان دخول هذا الشاب مكسباً عظيماً، وانطلاقة جديدة مهدت لتاريخٍ جديد لهذه الحركة، واصبح هذا الشاب في بدايات الثمانينيات واحداً ممن يقوم عليهم العمل الاسلامي في مدينة نابلس.

وفي هذه الفتره بدأ شهيدنا يتعرف على سيد قطب وحسن البنا واكثر من القراءة لسيد قطب وتعلق به، وكان يقول: من لم يقرأ لسيد قطب فقد فاته معظم الخير... .

وقرأ للقرضاوي وكان معجباً بشخصية الشهيد عبد الله عزام.

في جامعة النجاح الوطنية قادَ جمال منصور الكتلة الإسلامية وكانت فترة قيادته هي الاوضح والاهم في تاريخ الحركة الطلابية الاسلامية، فيها كانت الصراعات الساخنة والتحولات الجادة، والتمدد الاسلامي الملحوظ، داعياً طلاب الكتلة أن يكونوا بين الناسِ رجالاً، وبين الرجالِ أبطالاً ، وبين الأبطالِ أمثالاً.

في تلك المرحلة تم اصدار مجلة (المنطلق) ليكون أول منبر إسلامي ينطق بإسم الطلبة في ظل محاولات الطمس والاخفاء للصوت الاسلامي الصاعد من قبل الاحتلال وادارة الجامعة، واصحاب التيارات الفكرية المناوئه.

وفي ظل قيادة الشهيد للكتلة الإسلامية، حصلت الكتلة الإسلامية في الإنتخابات عام 1979م على (10) مقاعد من أصل (11) مقعداً من مقاعد مجلس اتحاد الطلبة، وفي إنتخابات عام 1980-1981 فازت الكتلة الإسلامية بجميع مقاعد المجلس، وبعد هذه النتيجة حصلت معركة بدر الكبرى وعرفت بإسم معركة 9/1/1982م عندما توحدت كتل منظمة التحرير ووضعت لها هدفاً واحداً وهو اسقاط المجلس وبادرت هذه الكتلة الموحدة بسلسة من الإجراءات الإستفزازية وصلت إلى حد تعطيل الدوام لمدة خمسين يوم إنتهت بالمعركة التي ضرب فيها افراد الكتلة الموحدة التابعة لمنظمة التحرير وهربوا من الجامعة، وبعد هذه المعركة لقب الشهيد جمال منصور بأمير المؤمنين.

في العام 1983 تخرج شهيدنا من جامعة النجاح- كلية التجارة واراد السفر إلى الخارج لإكمال تعليمه في الدراسات العليا، ولكنة تلقى الضربة الأولى من سلطات الإحلال بمنعة من السفر "لأسباب أمنية"، كيف لا وهو مؤسس الكتلة الإسلامية، وهو الذي قال عنه الحاكم العسكري عندما اعتقل في بداية الثمانينيات وتدخل مدير الجامعة لإفراج عنه، فقال للحاكم العسكري: أنه تم إعتقال أحد طلبة الجامعة، ونريد منكم الإفراج عنه، فقال له الحاكم العسكري: هذا ليس طالباً، هذا "خليفة"، لماذا؟ لأنهم وجدوا في حقيبته كل شيء عن الأمة الإسلامية عن مآسيها وأحوالها عن ظروفها، عن نكبالها، عن الجرائم التي ترتكب بحقها، عن همومها، عن مزاياها، عن سكانها، عن كل شيء.

وبعد منعه من السفر بدأ بالبحث عن عمل فوجد عملاً في أحد المحلات في الحسبة، ليعمل محاسباً، وبعد برهة من الزمن انتقل للعمل محاسباً في فندق بالأراضي المحتلة عام 1948م.

فكانت فرصة لإتقان لغة العدو والتعرف عليهم عن قرب، لكنة بعد ستة أشهر تقريباً يعود إلى نابلس ليعمل محاسباً عند الحاج صبحي العنبتاوي، رحمة الله عليه، وقد قال عنه أحد أبناء الحاج صبحي – كنا نلمس في جمال حسن الإدارة، وصدق الأمانة، ودقة الإتقان-.

في هذه الأثناء تقدم جمال منصور إلى خطبة "منى الزقة"، والتي قالت أن أول معرفة له بالشهيد كانت في الجامعة وذلك عندما جاء ومعه مجموعة من قيادة الكتلة الإسلامية مهنئاً لها ولخمسة من الأخوات بمناسبة انتقالهن من حياة السفور والجهل إلى حياة الإيمان والالتزام متأثراتٍ بنشاط الكتلة الإسلامية ودعاتها المخلصين، لتصبح بعد ذلك من أبرز فتيات الكتلة الإسلامية نشاطاً.

ومنذ اليوم الأول في الخطوبة سألها سؤالاً لم تفهم أبعاده إلا بعد الارتباط به، وكان سؤاله: ما قدرتك على تغيير عاداتك؟ وقد قام بكسر عادةِ دخولِ الرجال إلى حفل الخطوبة والزفاف على الرغم من ضغط الأهل عليه.

أما حفل الزفاف فقد كان أولَ عرسٍ إسلامي تعلو فيه آيات الذكر الحكيم، ويصدح فيه المنشدون، وتجلجِل الخطابات الدينية طارحة البديل الأمثل للفن الهابط، وحضر حفل الزفاف جمعٌ غفير وفدوا من القرى والمخيمات والمدن الفلسطينية وحتما من الأراضي المحتلة عام 1948م، فكان عرسه مهرجاناً استعراضياً حاشداً ومنهجاً دعوياً جديداً.

ونكتفي بهذا القدر، وفي الحلقة القادمة نواصل مشوار الجهادي إن شاء الله، لشهيدنا أبي بكر فلسطين ودورة القيادي في اندلاع الانتفاضةِ الأولى عام 78 من القرن الماضي، وما تبعهُ من مسلسل الاعتقالات التي زادت عن أربعة عشر اعتقالاً، وتخللها إبعادٌ إلى مرج الزهور، فإلى اللقاء في الحلقةِ القادمة إن شاء الله تعالى، مستودعينكم الله الذي لا تضيع ودائعه.